مليكة بوخاري : القنيطرة
كشف تقرير لرآسة النيابة العامة إحالة مجموعة من الملفات على أقسام الجرائم المالية بمختلف محاكم المملكة ، تخص 16 تقريرا منجزا من طرف مجالس الحسابات و 700 ملف .
قرار طالما انتظره الرأي العام نظرا لمجمل الإنتقادات التي صاحبت هاته التقارير التي بقيت حبيسة الأرقام فقط .
لعلنا لا نأتي بجديد في هذا الباب ، على اعتبار أن التقارير الصادرة إعترفت هي نفسها بالحاجة إلى بدل المزبد من الجهود للوصول إلى الغاية المبتغاة من إنشاء هاته المجالس و الأقسام المختصة في قضايا الجرائم المالية ، حيث اعترف التقرير الصادر عن رآسة النيابة العامة أن عدد الملفات لا يزال كثيرا ، و أن بعض القضايا لا زالت بين يدي الشرطة القضائية على الرغم من طول المدة التي أحيلت فيها هاته الملفات على هاته المصالح .
لعل هذا الإعتراف هو كفيل بتفكيك الإشكالية الكبيرة التي تعوق دون التنزيل الفعلي للمضامين التي أحدث من أجلها المجلس الأعلى للحسابات باعتباره مؤسسة دستورية مغربية غايتها المساهمة الفعالة في عقلنة تدبير المالية العامة من خلال ممارسة رقابة مستقلة عن السلطتين التشريعية و التنفيذية .
فإلى أي مدى إستطاعت تجربة المجلس الأعلى للحسابات و المجالس الجهوية المحدثة لاحقا تحقيق هذا الدور الرقابي ؟
الأكيد أنه و مند سنة 1960 تاريخ إحداث اللجنة الوطنية للحسابات ، و التي حصرت مهامها حينها في المراقبة المحاسباتية الإدارية ، و ما ووجهت به من عراقيل نتيجة ضآلة الإمكانيات البشرية و المادية .
لكن هل ولادة المجلس الأعلى و المجالس الجهوية للحسابات أدت الدور المطلوب ؟
لقد كشف مسار عمل المجلس الأعلى للحسابات المشكل سنة 1979 بموجب القانون رقم 79-12، و الدور المنوط به و المتمثل في تأمين المراقبة العليا على تنفيذ قوانين المالية ، و التأكد من قانونية عمليات مداخيل و مصاريف الأجهزة الخاضعة لرقابته ، و معاقبة عند الإقتضاء كل تقصير في احترام القواعد المنظمة لتلك العمليات ، و محاولة دستور 13 شتنبر 1996 الارتقاء بمهام المجلس ليصبح مؤسسة دستورية من خلال ممارسة الرقابة العليا على تنفيذ قوانين المالية ، و إحداث المجالس الجهوية للحسابات التي كلفت بمراقبة حسابات الجماعات المحلية و هيئاتها و كيفية قيامها بتدبير شؤونها وفق ما نص عليه الباب العاشر من الدستور و المتعلق بممارسة المجلس ، وصولا إلى تأسيس المحاكم الإدارية إبتداء من سنة 2002 عقب صدور القانون رقم 99-62 و الذي حدد بوضوح اختصاصات المجلس الأعلى للحسابات و تنظيمه و تسييره في (الكتاب الأول) و المجالس الجهوية في (الكتاب الثاني) و كذا النظام الأساسي لقضاة المحاكم المالية في (الكتاب الثالث) .
و تدعيم دور هاته المحاكم من خلال دستور 2011 ، و تعزيز دورها في المجالات الهامة المتعلقة بالحكامة العمومية من خلال نشر التقارير الخاصة المتعلقة بالمهمات الرقابية المنجزة ، فضلا عن التقرير السنوي .
فعل تمكن المجلس من أداء مهامه ؟
الأكيد أن المجلس أصدر العديد من القرارات و ذلك ابتداءً من فبراير 2010 ، بعد إصداره قانونا يجبر جميع الوزراء و البرلمانيين و قضاة المحاكم بتصريح ممتلكاتهم خطيا خلال بداية ولايتهم ثم خلال نهايتها ، وصولا إلى تدقيق الحسابات السنوية للأحزاب السياسية و فحص مدى صحة نفقاتها برسم الدعم الحكومي تطبيقا لأحكام الفصل 147 من الدستور و المادة 44 من القانون التنظيمي رقم 29.11 المتعلق بالأحزاب السياسية و المادة الثالثة من القانون رقم 62.99 المتعلق بمدونة المحاكم .
كما أن المجلس أصدر قرارات عزل في حق عدد من المنتخبين بالجماعات الترابية بسبب عدم تسوية أوضاعهم فيما يتعلق بالتصريح الإجباري بالممتلكات وفقا لمقتضيات المادة الأولى من القانون رقم 06.54 المتعلق بإحداث التصريح الإجباري لبعض منتخبي المجالس المحلية والغرف المهنية وبعض فئات الموظفين أو الأعوان العموميين بممتلكاتهم .
و كون المجلس جسد هذا سنويا من خلال إصداره لتقريره السنوي حول أعمال الرقابة و المحاكم المالية أمام مجلسي البرلمان خلال جلسة عمومية مشتركة .
لكن هل تمكن المجلس بالفعل من إيقاف نزيف الاختلالات ؟
الأكيد لا ، ما دامت تلك التقارير بقيت حبيسة الرفوف مع غياب تحريك متابعات قضائية في حق الفاسدين الذين رصدتهم التقارير الجهوية للمجلس ، تماشيا مع دعوة الملك محمد السادس نصره الله و أيده ، إلى الدخول في مرحلة جديدة ، عنوانها العريض ربط المسؤولية بالمحاسبة ، و القطع مع العبث في التعامل مع أموال المغاربة .
فهل انتقلتا بالفعل إلى هاته المرحلة التي دعا إليها جلالة الملك أعزه الله ؟
تقارير المجلس الأعلى للحسابات أصبحت موضوع نقاش و تعليق ، شرائح واسعة و متنوعة من المجتمع العام و الخاص ، ليبقى السؤال المطروح و المشروع هو ، ماذا بعد تقارير جطو ؟ و كيف يمكن لهاته التقارير الخروج من رفوف المكتب لتصل إلى المحاكم لمحاسبة الفاسدين ؟ أم أن للفساد أسوارا عالية أكثر من القانون ؟
جطو من جهته و قبيل إصدار تقرير رفعه إلى الملك محمد السادس ، أصدر بلاغا ، دافع فيه عن نفسه ، و عن قصور مجلسه في تحريك سيف المحاسبة ضد المفسدين ، إذ أكد أن هذا التقرير يعد ثمرة إنجاز المهام المسطرة من قبل المحاكم المالية ، و التأكد من احترام الضوابط الجاري بها العمل و معاقبة كل إخلال بها عند الاقتضاء ، و اختصاصات غير قضائية متعددة تركز من خلالها المراقبات المنجزة على مدى نجاعة و فعالية العمليات المالية للأجهزة العمومية ، و كذا تحقيق الأهداف المنتظرة من البرامج و السياسات العمومية.
و أما في ما يتعلق بتحريك المتابعات ضد المفسدين ، فقد أشار جطو إلى أن النيابة العامة لدى المحاكم المالية ، أحالت عدة متابعات على هذه المحاكم في ميدان التأديب المتعلق بالميزانية و الشؤون المالية ، كما أحال الوكيل العام للملك لدى المجلس الأعلى للحسابات قضايا تتعلق بأفعال قد تستوجب عقوبة جنائية على رئاسة النيابة العامة .
فأين الخلل يا ترى ، هل هو خلل نصوص قانونية أم سلطة أخرى معطلة لتنزيل تلك القوانين على أرض الواقع ؟
المجلس الأعلى للحسابات يقدم تقارير رقمية متعلقة بعدد القرارات القضائية ، و الأحكام الصادرة عن المجالس الجهوية للحسابات و التأديب المتعلق بالميزانية و الشؤون المالية و مواصلة تلقي التصريحات بالممتلكات ، و تقديم تقارير دورية للبرلمان بغرفتيه .
إدريس جطو، الرئيس الأول للمجلس الأعلى للحسابات ، اشتكى من “لامبالاة البرلمان” بالتقارير التي ينجزها سنويا ، والتي تصل العشرات ، و ذلك ضمن اجتماع لجنة مراقبة المالية العامة بمجلس النواب ، خلال تقييم برنامج مدن بدون صفيح ، منذ 2008 إلى 2018 .
البرلمان يؤكد توصله بالتقارير بعد 22 أسبوعا ، منبها إلى أن “المجلس ينجز بين 40 و 50 تقريرا كل سنة و 250 مهمة على مستوى المجالس الجهوية للحسابات” ، مشيرا إلى أن “فيها ما يكفي و هي تقارير جد مهمة للاقتصاد الوطني” .
فالمشكلة وفقه تتمثل في التأخر في البث في التقارير و الاختلاف بين الزمن البرلماني وزمن قضاة المجلس الأعلى للحسابات .
رد جطو ، جاء مشددا على أن قضاة المجلس الأعلى للحسابات يشتغلون على هذه التقارير حيث قال “نشتغل على هذه التقارير ولا يشتغل عليها ، سواء في لجنة المالية أو اللجان البرلمانية الأخرى” ، وأوضح جطو “تم السنة الماضية العمل على خمسين تقريرا ، و بعضها أكثر أهمية من التقارير التي نشتغل عليها اليوم ، و تم المرور عليها مرور الكرام ، دون أن يبالي بها أحد” ، مضيفا “نحاول البحث عن أسلوب ليشتغل البرلمان على عمل المجلس ، و يؤكد لنا أن ما نقوم به يؤخذ بعين الاعتبار ، و هو أمر نحتاج العمل عليه مستقبلا” .
فأين الخلل إذن أمام تقاذف الاتهامات بين مجلسي البرلمان و الحسابات ؟
رئيس المجلس الأعلى للحسابات ، إدريس جطو ، اعترف بتقصير مجلسه في تتبع التوصيات الصادرة عنه ، مؤكدا في السياق ذاته ، أنه سيصدر في الأسابيع القليلة المقبلة أول تقرير حول تتبع هذه التوصيات ، حيث قال خلال مناقشة الميزانية الفرعية للمجلس الأعلى للحسابات ، بلجنة العدل بمجلس النواب ، إن تتبع توصيات المجلس “عمل صعب” ، حيث أن المؤسسات المعنية بهذه التوصيات تجد المسؤولين عنها قد تغيروا .
و أشار إلى أن المجلس الأعلى للحسابات سينشر قريبا تقريرا أوليا في موضوع تتبع التوصيات وستليه تقارير أخرى ، مشيرا إلى أن رئاسة الحكومة تتعامل إيجابيا مع التقارير التي يصدرها مجلسه و لديها فريق متخصص في عمل المجلس .
و أضاف أن تقارير مجلسه ترسل أيضا إلى وزارة الاقتصاد و المالية و إصلاح الإدارة و التي تتفاعل معها أيضا بإيجابية ، بعد ذلك يتم نشرها للتواصل مع المواطنين و مع النواب البرلمانيين ، مضيفا أن هذا النهج تعمل وفقه جميع المؤسسات المالية بالدول المتقدمة .
و تحدث عن عمل مجلسه مع لجنة مراقبة المالية العامة بمجلس النواب و الذي وصفه بـ “العمل النموذجي” ، مضيفا أنه عندما يكون هناك تقرير صادر عن المجلس يدخل في مجال لجنة برلمانية معنية فعليها أن تسائل الحكومة ، و تساعد المجلس من أجل تفعيل التوصيات الواردة فيه .
الأكيد أن ذوبان كرة الثلج يستلزم فعلا مسؤولا ، و تجاوز كل المعيقات التي تعوق تفعيل مفهوم الحكامة في التدبير المالي العمومي ، و لربما تعد الخطوة التي أقدمت عليها رآسة النيابة العامة مدخلا لتفعيل المقتضيات القانونية ، و تنزيل المفاهيم الدستورية و تلك الصادرة عبر التوجيهات الملكية لتحقيق النجاعة القضائية من خلال تفعيل ما أصدرته رآسة النيابة العامة التي دعت إلى بدل المزيد من الجهود ، و إيلاء عناية خاصة لهذا النوع من القضايا ، سواء من خلال مخطط القضاء على المخلف من القضايا الرائجة في البحث ، أو العمل على إنهاء الأبحاث داخل آجال معقولة ، و معرفة أسباب التأخر في إنجاز الأبحاث و اتخاذ التدابير اللازمة لإنهائها و توزيع القضايا بشكل متوازن على الفرقة الوطنية للشرطة القضائية بالدار البيضاء ، و الفرقة الوطنية للدرك الملكي ، و الفرق الجهوية للشرطة القضائية ، تفاديا للمركزة و بالتالي إعاقة عملها .
و أشار تقرير النباوي إلى التعاون الإيجابي مع تقارير جطو من خلال اعتماد نظام الدعوى الموازية مع ممارسة دعوى التأديب المالي بالمحاكم المالية ، مؤكدا على أن هاته المحاكم تعتبر من آليات المساءلة و الرقابة المالية اللاحقة توطيدا لمبادئ الحكامة الجيدة في مجال التدبير العمومي ، مع إحالة كل الاختلالات إلى النيابة العامة المختصة ، بعد الدراسة في نفس اليوم الذي تتوصل به ، من أجل تحريك مسطرة المتابعات القضائية ، و إحالتهم على القضاء من أجل محاكمتهم طبقا للقانون .
فعل سنتجاوز مرحلة تقاذف كرة الثلج بين أطراف الرقابة ، لنصل إلى تعاون فعلي و مسؤولية و سرعة حقيقية في ممارسة هذا الدور الرقابي المالي و التذبيري للمالية العامة ؟ المستقبل هو الذي سيجيب على هاته التفاصيل .
إرسال تعليق