مهرجان وليلي الدولي: تقليد فني عريق يتعثر في التنظيم

  • الكاتب : توفيق اجانا
  • بتاريخ : يوليو 4, 2025 - 8:52 ص
  • الزيارات : 209
  • تحت الرعاية السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله، نُظّمت بمدينة مكناس الدورة الرابعة والعشرون من مهرجان وليلي الدولي لموسيقى العالم التقليدية، من طرف وزارة الشباب والثقافة والتواصل – قطاع الثقافة، بتعاون مع عمالة مكناس، ومجلس عمالة مكناس، وجماعة مكناس. مهرجان يحمل في اسمه وعدًا بالتميز، ويُفترض أن يعكس الغنى الفني والثقافي المغربي ويُعرّف به عالميًا، غير أن الواقع – للأسف – كشف عن مجموعة من الاختلالات التنظيمية والتقنية التي أضعفت بريق هذه التظاهرة، وطرحت أسئلة حرجة حول مستقبلها المهني والفني.

    الارتباك منذ البداية… والبدايات دالة على النهايات

    منذ اللحظات الأولى، برزت مؤشرات ارتباك واضحة في التنظيم. فبينما كان من المفترض أن تُخصص اللحظات السابقة لانطلاق العروض للتركيبات التقنية وتجريب الصوت والميكروفونات من طرف الفرق المشاركة، فُتح المجال للجمهور بشكل مبكر دون تنسيق مُحكم، ما أدى إلى اقتحام بعض الحاضرين للمقاعد المخصصة للضيوف، لولا تدخل أحد عناصر الأمن الخاص بحنكة وهدوء، الذي استطاع أن يُقنع الجمهور بالعودة إلى الخلف وإخلاء المقاعد المخصصة للشخصيات الرسمية.

    وزاد من هذا الارتباك تأخر انطلاق حفل الافتتاح عن موعده الرسمي، حيث كان مُبرمجًا في الساعة الثامنة والنصف ليلًا، غير أنه لم يبدأ فعليًا إلا في حدود الساعة التاسعة وأربعين دقيقة، ما خلق حالة من التململ وسط الجمهور، وأضعف الإحساس بالجدية والانضباط في أولى لحظات الدورة.

    تهميش الصحافة المهنية… اعتماد بلا تحقق ومشهد فوضوي

    من بين المظاهر المثيرة للقلق أيضًا، الطريقة العشوائية التي تم بها التعامل مع الصحافيين والمصورين. غياب فضاءات خاصة بالإعلاميين، وافتقاد الحد الأدنى من التقدير المهني لمن يُفترض أنهم شركاء في نقل صورة المهرجان، طرح علامات استفهام حول رؤية اللجنة المنظمة.

    ففي عين المكان، تم توزيع الشارات والملفات الصحفية بشكل عشوائي دون أي تدقيق فعلي، حيث اقتصر الإجراء فقط على تسجيل الاسم الكامل، والصفة، ورقم البطاقة الوطنية في لائحة ورقية، دون التحقق من الانتماء المهني، أو طلب بطاقة الصحافة، أو أي وثيقة تثبت صفة الصحفي أو المراسل المعتمد.

    هذا الأسلوب لا يليق بتظاهرة ذات بعد دولي، ويُظهر غيابًا صارخًا للمعايير المهنية المعتمدة في الفعاليات الثقافية الكبرى، ما يفتح الباب أمام فوضى الاعتماد و”انتحال الصفة”، ويمثل، في حد ذاته، دليلًا واضحًا على عدم مواكبة الدورة الرابعة والعشرين لتطورات الممارسة الإعلامية، ولا لاحترامها لأدوار الصحافة المهنية بوصفها رافعة أساسية لأي إشعاع ثقافي وفني.

    الصوت الغائب… وصدى الامتعاض

    أحد أبرز العثرات التقنية التي لاحظها الجمهور والضيوف على حد سواء، الانقطاع المتكرر لمكبرات الصوت، خاصة أثناء أداء الفنان محمد الدرهم، الذي لم يُخفِ استياءه ولوّح بيده لمهندس الصوت في رسالة احتجاج واضحة، تعكس حجم الإحباط أمام وضع لا يليق بمستوى الحفل.كما غاب التوضيب الجيد للصوت، ما أضعف جمالية الأداء وخلق مسافة بين الفنان والمتلقي، وجعل كثيرًا من الحاضرين يشعرون بالانفصال عن الأجواء الفنية التي يُفترض أن تُلامس الوجدان.

    وليلي… حين يصمت التاريخ في حضرة الإهمال البصري

    موقع وليلي ليس مجرد خلفية أثرية لحفل فني، بل هو ذاكرة مفتوحة على حضارات متعاقبة، حيث تفاعلت الثقافة والسياسة والدين والفنون. كان من الممكن – بل من الضروري – أن يُستثمر هذا الغنى الحضاري العابر للعصور ليُحوّل المهرجان إلى تجربة فنية-تاريخية تدمج بين الفرجة والمعلومة، والمتعة والسرد الحضاري.

    كان بإمكان المنظمين أن يجعلوا من المكان شخصية قائمة بذاتها داخل الحفل، تُحاور الموسيقى، وتستحضر أصداء العصور، وتبعث من بين الأحجار الصامتة حياة تفاعلية عبر تقنيات حديثة، مثل الهولوغرام، تُعيد تشكيل مشاهد من أسواق وليلي، أو أعراسها، أو لحظات حكمها القديمة، لتتداخل هذه الصور المجازية مع أنغام الموسيقى التقليدية القادمة من عمق الذاكرة المغربية والعالمية.

    لكن، للأسف، جاء التصميم البصري دون طموح الحدث. إنارة باهتة لا تليق بقدسية المكان، ومنصة عادية في تكوينها وموقعها، غابت عنها الجرأة الإبداعية في التفاعل مع الفضاء، وكأننا أمام مسرح صغير عابر وُضع وسط أطلال عظيمة، دون أن يشعر بروحها، أو يقرأ ما تُخفيه بين الحجارة من قصص عشق وفن وأسطورة.

    من مكناس إلى فاس… حين انتقل التنظيم وخفّ بريق المهرجان

    في أحاديث مع عدد من الفاعلين الثقافيين والمُتابعين للشأن الفني بالجهة، طُرح تساؤل مشروع يهم ذاكرة مهرجان وليلي الدولي: هل فقد المهرجان شيئًا من روحه حين انتقل تنظيمه من مكناس إلى فاس؟ وهل كان تدبيره، في سنواته الأولى، أكثر إحكامًا ومهنية مما نعيشه اليوم؟

    الواقع أن المهرجان، في بداياته، كان يُنظَّم انطلاقًا من مدينة مكناس باعتبارها آنذاك مقرًا للجهة، حيث كانت وزارة الثقافة تتعاون مباشرة مع الفعاليات والمؤسسات المكناسية في التنظيم. لكن مع إعادة هيكلة الجهات في المغرب وانتقال مركز الجهة إلى مدينة فاس، أصبح تدبير المهرجان يتم من هناك، في إطار رؤية جهوية جديدة.

    هذا التحول لم يكن مجرد تغيير إداري، بل ترك أثره على مستوى هوية المهرجان وتنظيمه. يسترجع البعض، بنوع من الحنين والتقدير، تلك الدورات الأولى التي كانت فيها مكناس أكثر انخراطًا وتفاعلاً، وكان التنظيم يتميز بعناية أدق وتنسيق أقرب مع الفعاليات المحلية، مما منح المهرجان طابعًا حيويًا وقريبًا من الجمهور.

    لكن بعد أن باتت جهة فاس مكناس تُشرف على تنظيم المهرجان انطلاقًا من فاس، تراجع هذا التفاعل، وأصبح المهرجان في نظر بعض المتابعين أقرب إلى تظاهرة رسمية تُدار من بعيد، دون أن تستفيد مكناس من حضورها الميداني، أو من تراكماتها في احتضان مثل هذه التظاهرات.

    وعندما عاد المهرجان إلى مكناس في دورته الرابعة والعشرين، كان الأمل أن يستعيد شيئًا من ذلك التوازن، لكن المفارقة أن الارتباك التنظيمي الذي شاب هذه الدورة كشف عن غياب تصور واضح يعيد لمكناس دورها الطبيعي في احتضان مهرجان هو جزء من ذاكرتها الثقافية.

    لا يمكن تجاهل الجهد الذي تُبذله الوزارة الوصية والشركاء المحليون في تنظيم مهرجان وليلي الدولي، خاصة في ظل التحديات المرتبطة بالتمويل والتنسيق متعدد الأطراف. إلا أن الرهان على الاستمرارية لا يكفي وحده إن لم يُقترن بتطوير أدوات العمل، واحترام الضوابط المهنية، والاستماع لصوت الفاعلين والمتخصصين.

    الدورة الرابعة والعشرون كانت، بكل حياد، فرصة ضائعة لإبراز الهوية المغربية في أبهى صورها، وتأكيد ريادة المغرب الثقافية، لكنها تحوّلت – للأسف – إلى مرآة عاكسة لمشاكل في التواصل، في التنظيم، وفي الرؤية الشاملة.

    إن مهرجانًا يُقام تحت الرعاية الملكية السامية يستحق أكثر بكثير من مجرد “تنظيم بروتوكولي”، بل يحتاج إلى تخطيط إبداعي، ونَفَس مهني، ووعي حقيقي بقيمة الثقافة كرافعة للتنمية والهوية.