رقصة اتبويردة عند قبيلة غياتة

0

نشر في: 4 نوفمبر  2019  /  12:10

ذ. محمد الهرنان كاتب وباحث في التراث

تتشكل في ذهنية المهتم بالتراث الغنائي المغربي لوحة فنية تتقاطع فيها كل الألوان الموسيقية، حيث تتصور في شكل فسيفسائي ساحر. فالمغرب ببحره وسهوله احتضن فن لعيوط والرمى والشمال بجباله احتضن الطقطوقة وجهجوكة الجبلية والجنوب بصحرائه وتنوعه الإثني احتظن الهرمة والكدرة والفن الحساني والأمازيغي والكناوي كما هو الشأن بالنسبة للأطلس الذي حافظ على فن أحيدوس، بقي الشرق أيضا يفتخر بالغرناطي وغيرها من الفنون، لكن في هذه الدراسة سنقتصر على فن اتبوريدة عند قبيلة غياتة بتازة. واول سؤال سنطرحه لماذا تستعمل قبيلة غياتة البندقية في رقصتها هاته؟ وكيف تحولت هذه البندقية من أداة للحرب إلى وسيلة للتعبير عن الفرح؟

إن طبيعة المواجهات التي عاشها سكان حوض إيناون في مواجهتهم للاستعمار هي التي أثرت في كل مناحي الحياة ومنها الجانب الفني، حيث نجد قبيلة غياتة مثلا عبر التاريخ عرفت بصنعها للأسلحة التقليدية وإتقانها فن التصويب وشغفها باستعمالها وهذا ما عبر عنه شارل دو فوكو في مذكرته بقوله: من المهن التي كان يزاولها أيضا التازيون وخاصة اليهود صناعة الأسلحة حيث تواجدت العديد من معامل  الأسلحة القديمة في المدينة فالصناع كانوا يتحولون في كل المناطق بحثا عن البنادق القديمة وكل ماله علاقة بالأسلحة العتيقة ويعيدون صنعها لتقديمها للبيع والتي كانت تتراوح أثمنتها بين 5 و6 دورو وقد سبق أن أثار شارل دوفوكو إلى صناعة الرصاص والبارود بالمنازل وخاصة عند غياتة التي وجد بها حولي 80 منزلا مختصا في الصناعة واعتبر معدن الرصاص هو الوحيد الذي يتقنون استخراجه ومعالجته.

فالسمعة العسكرية التي تميز بها سكان قبيلة غياتة في مواجهتهم للاستعمار جعلتهم يعشقون صنع البنادق.

ثم طبيعة التضاريس الجبلية التي يسكنونها هي أيضا مسؤولة بشكل كبير عن قدرتهم القتالية وعشقهم للبارود حتى أن الحسن الوزان أشار إلى ذلك فيما يخص المخبرون الفرنسيون أثاروا إلى ذلك بقول أحدهم: إن غياتة يعتبرون أن وعورة بلادهم سوف تجعلها في معزل عند التدخل الأجنبي، لهذا فهم يختزنون الحبوب في الجبل بالرغم من كون أراضي حرثهم وصراعهم وقراهم بالسهل حتى إذا ما شعروا بأي خطر كان أول ما يقدمون عليه الالتجاء إلى جبل تازكا والثغرة عند بني وراين.

فقوة غياتة وشجاعتها وقدراتها على المواجهة يستمد أسسه إلى حد كبير من طبيعة مجالها الجبلي الذي يصفه لويس أرنو بالجبل الجهنمي.

فلقد تحولت البندقية التي صاحبت الغياتي من وسيلة للحرب زمن الاستعمار وكأداة للمقاومة والدفاع عن الأرض والكرامة والعفة الغياتية، سواء في علاقتها بالاستعمار أو حتى مع بعض القبائل المجاورة، في ذلك الوقت إلى وسيلة للتعبير عن الفرح والرقص زمن الاستقلال بعدما انفرجت الكربة عن حياتهم اليومية وعاد السلم والأمان إلى المداشر فوظفت في الرقص كافتخار “بالمكحلة” التي أتقن الغياتي تصويبها عبر سنين طويلة. فهي الآن رمز للسعادة وجزء من التاريخ المحلي لقبائل حوض إيناون لهذه سميت برقصة حربية. فالبندقية أيضا ترمز وتشير لكون الغياتي لا زال مستعد للدفاع عن الوطن وعن الحرية التي استشهد من أجلها آلاف المغاربة زمن المقاومة في كل جهات المغرب.

والمكحلة/ البندقية جزء أيضا من الموروث الثقافي لمدينة تازة. مثلها مثل الصابون والزربية الوراينية وغيرها من الصناعات التي عرفت بها المدينة. فتحولت هذه الصناعة إلى جزء من الذاكرة الثقافية للأهالي، وأثرت في الصغير والكبير لعقود طويلة. فتسمع مثلا:” ما يفكني معاك حتى صابون تازة” وهو رمز للنقاء والصفاء والجودة. ” الغياتي عند غير نقشة” رمز للصلابة والقوة والدقة في التصويب.

الأبعاد الموجودة في فن اتبوريدة الغياتية:

  • البعد النفسي والاجتماعي:
  • رقصة التبوريدة إنسانية في العمق ترمز للاتحاد والانتصار: حالة إطلاق البارود جماعة.
  • علمية في محتوياتها تعتمد على التركيز والحساب أثناء اللعب بالكتف والرجل.
  • لها دلالتها النفسية عند الرجل حيث يشعر دائما بالعزة والقوة والوجود.
  • أيضا لها وظيفة سيكولوجية عند النساء، تقلن مثلا فلان ابواردي أو المعلم فلان، كل هاته الومضات سنحاول مقاربتها من خلال فرقة غياتة بتازة.

قبيلة غياتة بشقها الغربي واد امليل والشرقي كلدمان جل سكانها لهم عشق خاص للرقصة، أولا بحكم التنشئة الاجتماعية التي تعمل على تجذرها داخل الكيان الغياتي بدل أفولها وإنمحائها من الذاكرة الجماعية فيسقط الأهالي المحليين في قطيعة مع ماضيهم الفني.

ثانيا للغياتي ميول خاصة للمكحلة (البندقية) ليسمع وقعها ويشم رائحة البارود وكيف لا وأن المنطقة تاريخيا عرفت بصنعها للبنادق وحملها كرمز للقوة وإثبات الذات.

  • البعد الفني:

إذا كانت التبوردة في شموليتها تمثل تعابير الرقصة خاصة بالشرق، فإن من داخلها تتفرع ثلاثة أنواع مشهورة: لعلاوي المانكوشي، انها يرى، وكل صنف من هاته الأصناف له إيقاعه الخاص: ثقيل – خفيف – متوسط.

لكن الأسس النظرية التي تنبني عليها اللعبة ككل تفرض دربه أثناء الرقص بمنهج رياضي علمي، يرتكز على العقل والصرامة بدل الوجدان فقط أو المشاركة العبثية.

بين الطبال والراقص عقد معنوي، كل طرف منهما يطمح إلى إنهاء ما يسمى بالبرطيا (partie) من دون ارتكاب أي خطأ، فدورهما جوهري إذن، أما الغياط فهمه الأوحد الحفاظ على الإيقاع الموسيقي.

تبدأ العملية انطلاقا من تقسيمات يفرضها الراقص على الطبال، في شكل حسابات إما بإشارة بأصابعه الخمسة أو يرويها له شفاهيا وهو يرقص انطلاقا من “الخاويات” أي ضربات فارغة بالرجل في الهواء ثم عدد من “الخميسات” اعريشيات – اسبييات، اتزلويجات، كل هاته الأمور تشكل ما يسمى بالقطعة كتمارين حسابية فيها ما هو نظري جبري يتحول إلى حركي تطبيقي.

تسود روح المنافسة بين أفراد الفرقة ككل، والخاطئ الذي يفسد اللعبة قد يؤدي ثمنا ما يخضع لعرف تحتكم إليه الجماعة.

وكلما أوشكت الفرقة على النهاية يطلقون صيحات غربية هايهاي – هايهاي كعلامة على نهاية ” البارطيا” يستشف الملاحظ غبطة تكسو وجوههم كما لو أنهم انتهوا من مطاردة شيء ما، فيتلذذون بروح الانتصار، ويختمون بإطلاق البارود في السماء، بالمقابل تتعالى زغاريد النساء تعبيرا عن فرحة مزدوجة وكانجذاب فطري بين الجنسين.

أنواع القطعات أو الرشمات :

كلمة الرشم متداولة بشكل قوي في المجتمع التازي عموما وتعني علامة. وقد تعني أيضا عند البرانس الخطبة. يقال فلان رشم فلانة بمعنى خطبها كي لا يقترب منها أحد. كما يقال رْشَمْ شجر الزيتون، بمعنى علامة على بداية تكوين حبيبات صغيرة. ويقال في القمار ” لعب الكارطة”، رشم بمعنى كافئني.

فهذا الرشم هو عبارة عن رموز وإشارات مستعملة أثناء الرقص والتي تتخللها عمليات حسابية تعتمد على الدماغ والذكاء القوي.

علامات وإشارات كانت تشكل شفرة سرية متداولة عند المجاهدين القدامى أثناء قتال العدو. فطبيعة هذه الرقصة الحربية لها أبعاد أنترو بولوجية مهمة عبرها استطاع الإنسان الغياتي أن يؤرخ لتاريخه الموسوم بالبراعة في القتال. فكلمة خاوية هي التوقيع في الهواء بالرجل والكتف هذه الإشارة التي توحي إلى غياب الخطر أي ليس هناك أحد.

كلمة خميسة تعني عدد خمسة قد يكون 5 أشخاص من العدو أو 5 من المجاهدين الذين تسند لهم مهمة ما.

كلمة عريشة مستمدة من حركة الديك لما ينفخ ريشه وهي رمز للقوة. غالبا ما تقترن هذه الحركة برقم معين.

كلمة سبيسة أو سبايسيا تعني عدد سبعة.

فكل هاته الأرقام والحركات لها بعد سيميائي فقط تم تحويل بندقية مثلا من أداة للحرب إلى وسيلة للتعبير عن الغبطة والسرور. وانفراد الإنسان بالقدرة على إدراك الرموز من ناحية، وصياغتها واستخدامها من الناحية الأخرى هو بغير شك من أهم الأسباب التي تجعل علماء الأنثروبولوجيا يولون كثيرا من العناية والاهتمام لدراسة الجانب الرمزي في العلاقات الاجتماعية. فالسلوك الإنساني رمزي في جوهره، كما أن السلوك الرمزي هو بالضرورة سلوك إنساني، فالرموز حسب تعبير ليزلي وايت هي مجال للإنسانية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

error: عفوا هدا المحتوى محمي !!