الجنوب الشرقي المغربي بين رحلتي التدمير و الاستثمار (الجزء الأول)

0

مليكة بوخاري

الجنوب الشرقي المغربي حزام ممتد تتخلله مشاهد الفقر و التهميش و الطموح المحمول على انفتاح نحو التشبث بالحياة و بالتنمية الشاملة اعتمادا على الرصيد الاستثماري الكبير الذي تحتويه المنطقة ، و الذي يؤهلها لتلعب دورا رياديا على مستوى السياحة الداخلية و الخارجية و تعويض النقص الحاصل في المجال نتيجة المنافسة الشرسة لدول تنافس المغرب سياحيا ، إلا أنه و على الرغم من كل هاته الإمكانات فإن المنطقة لم تنل حصتها من التنمية في إطار منظومة العدالة المجالية ، فمن المسؤول عن هاته الحالة ؟ و هل الأمر مرتبط بغياب الإرادة في التحول ؟ أم أن الأمر يتعلق بانعدام فرص استثمارية حقيقية ، على الرغم من المؤهلات الكبيرة و الواعدة التي تتوفر عليها المنطقة ؟ أسئلة عديدة سنحاول مقاربتها و الإجابة عنها ضمن هذا التقرير الصحافي المنجز من قلب “عاصمة أو بحر الرمال” بالمنطقة الجنوبية الشرقية من المغرب ، من خلال رحلة الاستمتاع بمناظر غروب الشمس الفاتنة و رحلة المصاحبة للرمال من على مثن جمل يتلوى في مشيته و تعثراته في قلب الرمال عبر كثبان عرق الشبي التي كونتها رحلة الرياح .


ضمن هذا الفضاء الشاسع الممتد على قيم الجمال و السمو و علو الهامة و ليس الكعب ، حيث يصدع عبق التاريخ سائلا سلجماسة عن ريادتها للتجارة العالمية ، فتجيبك و بهامة المتيقن من صوابية الجواب ، اسألوا عني الريصاني و أهلها ، و أرفود و جوارها و ورزازات و بحرها الذي لا يتوقف إلا ليرتفع من خلال قوافل تخلط الليل بالنهار ، و اسألوا “تامبكتو” الجنوب الشرقي ، الغارسة جذورها في قلب الرمال و الصحراء ، و التي حطت رحالها في “مرزوكة” لتصدع و من على بعد 130 كيلومترًا منادية عاصمة الإقليم الراشيدية علها تكون شاهدة على عظمة ذكرى و قوة شهادة ذاكرة ، بل و أفتوا التخوم التي تبعد 20 كيلومترا من شواهدها عن علاقات الصفاء و الأخوة الموحدة للرمال و الإنسان ، بل و اسألوا الرحل من قبائل “آيت عطا” عن رحلة الرحلات نحو “تامبكتو” مالي و صحراء الجزائر الكبرى .

بحور رملية شاسعة ممتدة عبر أفق مفتوح على “عرق الشبي” من خلال مناظر الكثبان الرملية الجميلة ، و تلال تتوزع ما بينَ القصيرة و الكبيرة ، تتحول إلى أمواج متحركة ،
و عشرات السياح الذين يخترقون الفضاء على الرغم من اختلاف الأسباب إلا أن الوجهة تبقى واحدة ، و الغاية هي نفسها الاستفادة من جمالية الفضاء و عمق المعنى المحشو بالفوائد المتعددة من الصحية إلى النفسية إلى الاجتماعية ، و كرم و طيبوبة الناس البسطاء بساطة المكان المعطاء العليل و الذي يتذكره كل قاصد له للتعافي من العديد من الأمراض و على رأسها الروماتيزم ، أو الباحث عن الاستجمام و الاستمتاع بغروب الشمس من خلال كثبان رملية تشبه أمواج البحار ، إذ يقال إن أجمل غروب في الكون هو غروب “مرزوكة” ، مع الاستعداد و أنت في أعماق الرمال لمواجهة حبات الرمال المتلاطمة على وجهك ، و مواجهة العواصف الرملية التي قد تفاجئك بأدوات الساكنة البسيطة من خلال اللثام ، ويعد تاريخ المدينة ضاربا في القدم ، فهذه المنطقة ، كانت بمثابة نقطة عبور للتجار المتوجهين إلى العاصمة المالية أو القادمين منها .


مناطق ارتبطت تاريخيا بحلقات التجارة من و إلى باقي الدول الإفريقية ، و حركة القوافل المتوجهة في اتجاهات مختلفة حاملة للتجارة و للقيم أيضا ، في صفاء و سمو يعكسه سعة صدر المكان – الإنسان ، و الذي حول هجران المكان إلى موطن استقرار ، لتتحول “مرزوكة” إلى نقطة عبور أساسية للتجار المتوجهين إلى “تمبكتو” في مالي أو القادمين منها ، و هو ما حولها إلى محج للرحل المنتسبين إلى قبائل أمازيغية ، و أيضا لقوافل التجارة الصحراوية التي ربطت البحر الأبيض المتوسط بجنوب الصحراء من خلال تجارة الذهب و العبيد أيضا ، فيما عرف تاريخيا بالرواج الثلاثي .
و يمكن أن نضيف تحول المنطقة إلى نقطة تلاقي مجمل القبائل المتواجدة بالمنطقة من قبائل “آيت عطا” الأمازيغية ، الذين استقروا بها و اهتموا بالاستثمار فيها ، لتتحول المدينة إلى نقطة سياحية هامة لاحقا ، و التي ستصبح المورد الاقتصادي الأساسي للسكان سواء في شقه المرتبط بالرمال مباشرة ، أو ذاك المرتبط بتلك السياحة ، بشكل غير مباشر ، من فندقة أو نقل عبر الوسائط المتعددة و خاصة النقل عبر الجمال ، و لكن و مع ذلك يبقى ضعف الوسائط اللوجستيكية على مستوى البنى التحتية الأساسية من أهم معيقات تطور المنطقة و الجهة فضلا عن شيوع نوع من الفوضى و العشوائية في التدبير و غياب الرقابة النصية و الواقعية لزجر كل إمكانيات هدم بنى المكان ، و تحطيم استدامة هذا العطاء الرباني الطبيعي المعرض للقتل خلال مدة لا تتجاوز السنتين أو الثلاث سنوات إن استمر الوضع على ما هو عليه من فوضى و تدمير كما قال للجريدة أحد المهنيين .
و هي جراح حملناها بصدق الباحث عن الحلول للمشكلات القائمة ، و تداولناها مع كل من له ارتباط بهذا الفضاء الرائع المعوق بإرادة الفوضى في تدبير هذا المورد الطبيعي بالتستر عليه ، أو غض الطرف ، أو المساهمة في تسييد هذا الواقع المرضي مع سبق الإصرار و الترصد ، و بالشهادة البينة التي لا تحتاج إلى دلائل ، و هو ما سجلناه و رصدناه خلال رحلتنا لعمق الرمال ، حيث تنتشر فنادق فوق الرمال تقتل كل شيء حي و جميل في الطبيعة ، فتلوث المكان لتحيله إلى مستودع للإسمنت و القذارة باسم النهب و الربح السريع و الجشع الأعمى الذي يغلف القلوب قبل العيون .


علما أن المنطقة كانت قد عرفت سابقا هجرة نحو المدن القريبة أو البعيدة أو الخارج نتيجة ضعف إمكانيات الصمود في المكان سابقا ، و الذي جعل عدد الساكنة في منطقة مرزوكة مثلا لا يتجاوز 4000 نسمة ، كلهم من عشاق المكان و الراغبين في الحفاظ على تراث و إرث الأجداد ، و هم إما من أبناء الصحراء أو من ذوي الأصول الأمازيغية ، مع تسجيل وجود فئة قليلة من الوافدين الجدد الراغبين في الاستقرار و الاستفادة من خدمات و عطاء هذا الوعاء الطبيعي الصحي ، دون أن ننسى طيبة قلوب الساكنة ، و وجوههم البشوشة على الدوام ، و كرمهم الحاتمي .
و على الرغم من كل المعيقات و المشاكل التي تحول دون تحقيق المأمول في مجال التنمية و التنمية المستدامة على صعيد تلك المناطق الجنوبية الشرقية ، و هو الأمر الذي جعل أرقام الوافدين من السياح ترتفع سواء وسط المغاربة منهم أو الأجانب ، حيث وصل الرقم سنة 2017 ما بين 100 ألف إلى 120 ألفًا سائح سنويا ، و انعكاس ذلك إيجابا على مستوى الدخل السياحي ، حيث ارتفعت نسبة الملأ الفندقي و ليالي المبيت إلى 80 ألف ليلة وفق تقديرات غير رسميّة ، إلا أن جراح التدمير لا زالت تتوسع على الرغم من محاولة ترميم الجراح بوعي أو لا وعي من قبل المسؤولين عن التدبير و المراقبة و الزجر .
و ما زاد من عطاء المجال و قوة حضوره السياحي هو اشتهاره خلال العقود الأخيرة بما يعرف في المنطقة ب “عملية الدفن” أو ما يصطلح على تسميته محليا ب “الحمام الرملي” ، المشهور وطنيا بأنه علاج طبيعي فعال للعديد من الأمراض المزمنة و المستعصية و على رأسها الروماتيزم ، في جوف الكثبان، التي تحتضنها درجات الحرارة وسخونة الرمال ، و خبرة أبناء المنطقة في هذا المجال .


و تبتدئ العملية من خلال نصب خيام صغيرة تشبه عيادات شعبية معدة لاستقبال الزوار الباحثين عن سخونة الرمال و الذين يخضعون لمرحلة العلاج من خلال ما يعرف بـ “الاستحمام الرملي” ، أو “الردم” ، القائم على تغطية الشخص الراغب في ذلك كاملًا في الرمل ، باستثناء الرأس الذي يغطى بقبعة كبيرة ذات شكل دائري ، تسمى “تارازا” ، لتفادي التعرض لضربة الشمس ، تتوزع في شكل أشبه بالمقابر و ذلك لمدة تمتد ما بين 10 و 15 دقيقة ، مع تقديم جرعات قليلة من الماء لتلافي التعرض لجفاف الجسد خلال عملية الامتصاص التي تقوم بها الرمال ، ليستخرج الشخص بعد مرور 15 دقيقة و يلف بلحاف من الصوف ، للحيلولة دون تعرضه لأي تيار هوائي ، لينقل و يوضع داخل إحدى الخيمات القريبة من مكان الطمر بغرض الاسترخاء و لتمكينه من تناول مشروب ساخن ممزوج بالأعشاب ، بغاية التعرق ، إضافة إلى فوائد أخرى ضمنها التخلص من الترسبات السمية ، و أمراض المفاصل المختلفة ، و هو ما يجعل السياحة الاستشفائية و الاستكشافية ، أهم أركان و قواعد دخلها الذي يغطي السنة ، و الذي جعل المنطقة تتفوق على وجهات سياحية مغربية أخرى و ضمنها مراكش أو حتى أكادير ، و على طول أيام السنة .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

error: عفوا هدا المحتوى محمي !!